
اليوم مع يوم من اهم ايام التاريخ الاسلامي وهو يوم
فتح مكة
بقلم صالح منصور
عندما قرر الرسول محمدٌ السير لفتح مكة، حرص على كتمان هذا الأمر حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته فقد كَتَمَ أمرَه حتى عن أقرب الناس إليه فكَتَمَه عن صاحبه أبي بكر الصديق وزوجته عائشة فلم يعرف أحدٌ شيئًا عن أهدافه الحقيقية ولا باتجاه حركته ولا بالعدو الذي ينوي قتالَه وكان الرسولُ محمد قد أمر عائشة قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام أن تجهزه ولا يعلم أحد فدخل عليها أبوها أبو بكر الصديق فقال يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت والله ما أدري فقال والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر فأين يريد رسول الله؟ قالت والله لا علم لي
كما بعث الرسول محمد قبلَ مسيرة مكة سريةً مكونةً من ثمانية رجال إلى إضم وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية وفي ذلك يقول ابن سعد لما همَّ رسول الله بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم وهو وادي المدينة الذي يجتمع فيه الوديان الثلاثة بطحان وقناة والعقيق ليظن الظان أن رسول الله توجه إلى تلك الناحية ولأن تذهب بذلك الأخبار فمضوا ولم يلقوا جمعًا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب وهو موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد عن المدينة 56 كيلومتراً تقريباً فبلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة فأخذوا على بيبين حتى لقوا النبي بالسُّقيا وهي موضع يقع في وادي القرى
وأعد الرسولُ محمدٌ جيشًا وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل وبث رجالَ العسس بالدولة الإسلامية داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش ثم دعا الله تعالى فقال اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة وعندما أكمل الرسولُ محمد استعدَاده للسير إلى فتح مكة كتب الصحابيُّ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك الرسول إليهم وأرسله مع امرأة مسافرة إلى مكة ويؤمن المسلمون أن الله تعالى أطلع الرسولَ عن طريق الوحي على هذه الرسالة فقضى على هذه المحاولة وهي في مهدها فأرسل عليًّا والزبيرَ والمقدادَ فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تُخرج الكتابَ فسلمته لهم ثم استدعي حاطب للتحقيق فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقًا أي حليفاً في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال الرسول محمد أما إنه قد صدقكم فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال الرسول محمد إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
مسير المسلمين من المدينة إلى مكة
الاقتراب من مكة والتخطيط لفتحها
عندما وصل الرسولُ محمدٌ إلى ذي طوى وزع المهام على النحو الآتي
جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب فأمره أن يدخل مكة من أسفلها وقال إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا
جعل الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى وبعثه على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه
جعل أبا عبيدة على البياذقة الرجالة وبطن الوادي.
بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة الرسولِ محمدٍ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم وبهذا كانت المسؤولياتُ واضحةً وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مرَّ بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشاً فلما حاذى الرسولُ محمد أبا سفيان قال يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال وما قال؟ فقال كذا كذا فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال الرسولُ محمد بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى ابنه قيس بن سعد بن عبادة وقيل أن اللواء لم يخرج عن سعد وقيل بل دفعه إلى الزبير
وقال الرسولُ محمد يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعاهم فجاءوا يهرولون فقال
يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟ قالوا نعم قال انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا
ودخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت اقتلوا الحميث الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم قال ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن قالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال ومن أغلق عليه بابه فهو امن ومن دخل المسجد فهو امن
دخلت قواتُ المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ، ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريباً وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش حيث عجزت عن التجمع وضاعت منها فرصةُ المقاومة وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسولُ محمدٌ عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد ونجحت خطة الرسول فلم يستطع المشركون المقاومة ولا الصمودَ أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى فاحتل كل فيلق منطقته التي وُجّه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد بن الوليد فقد تجمع بعضُ رجال قريش ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه الخندمة وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام وصمموا على القتال فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة وشتت شمل أفرادها وبذلك أكمل الجيشُ السيطرةَ على مكة المكرمة
وقُتل من المسلمين كرز بن جابر الفهري القرشي وخنيس بن خالد الخزاعي، وكانا قد شذّا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما المشركون فإن المسلمين قد أصابوا اثني عشر رجلاً منهم فانهزموا وفرّوا
ويُروى أن رجلاً من بني الدئل بن بكر من قبيلة كنانة اسمه حماس بن خالد الدئلي الكناني كان قد أعد سلاحًا لمقاتلة المسلمين وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله لماذا تعدُّ ما أرى؟ فيقول لمحمد وأصحابه وقالت امرأته له يومًا والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شيء فقال إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال يرتجل
إن يـقـبـلـوا الـيـوم فـما لي عـلـة
هـــذا ســـلــاح كـــامـــل وألَّـــة
وذو غــراريـن ســريــع الـــســلــة
فلما جاء يوم الفتح كان ممن قاتل مع عكرمة ثم حين انهزم جند عكرمة خرج منهزمًا حتى بلغ بيته فقال لامرأته أغلقي عليَّ الباب فقالت المرأة له فأين ما كنت تقول؟ فقال يعتذر لها
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فـر صفـوان وفـر عكـرمـة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطـعن كل سـاعد وجمـجمة ضـربًا فـلا تـسـمع إلا غمـغمة
لهم نهيتٌ خلفـنا وهمـهمة لم تنـطق باللوم أدنى كلمة
وأقبل خالدٌ بن الوليد يجوس مكة حتى وافى الرسولَ محمداً على الصفا. وأما الزبير بن العوام فقد تقدم حتى نصب راية الرسولِ محمد بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة فلم يبرح حتى جاءه الرسول
وحرص الرسولُ محمدٌ أن يدخل الكداء التي بأعلى مكة تحقيقًا لقول صاحبه الشاعر حسان بن ثابت، حين هجا قريشاً وأخبرهم بأن خيل الله تعالى ستدخل من كداء حيث قال
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعـدها كـداءُ
يـنـازعـن الأعنـة مصغيات على أكتافها الأسل الظـماءُ
تـظـل جيـادنـا متمـطرات يلـطمهـن بالخُمُرِ النـسـاءُ
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاءُ
وإلا فـاصبـروا لجـلاد يوم يعز اللـه فيـه مـن يشـاءُ
وجبـريـل رسـول الله فـيـنا وروح القـدس ليس له كفـاءُ
وقـال الله قد أرسـلت عبـداً يقول الحق إن نفـع البـلاءُ
شهـدت بـه فقومـوا صدقوه فقلـتـم لا نقـوم ولا نشـاءُ
وقال اللـه قد سيرت جندًا هم الأنصار عرصتها اللقـاءُ
لنا في كـل يـوم من معـد سبـاب أو قتـال أو هـجـاءُ
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختـلط الدمـاءُ
ألا أبـلغ أبا سفيـان عني مغلـغلة فقد بـرح الخفـاءُ
بأن سيوفنا تركـتـك عبدًا وعبد الدار سادتها الإمـاءُ
هجوتَ محمدًا فأجـبـتُ عنـه وعند الـله في ذاك الجزاءُ
أتهجـوه ولست لـه بكـفء؟ فشركـمـا لخيركـما الفداءُ
هجوت مباركًا بـرًّا حنـيفًا أميـن الله شـيمـتـه الوفـاءُ
أمن يـهـجـو رسول الله منكم ويـحمـده ويـنـصـره سـواءُ
فإن أبي ووالـده وعـرضـي لـعـرض محـمد منـكم وقـاءُ
لسـاني صـارم لا عـيب فيه وبـحـري لا تـكـدره الـدلاءُ
ومما يؤيد حرص الرسولِ محمد على دخوله من كداء ما جاء عن عبد الله بن عمر إذ قال لما دخل رسول الله عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر فتبسم إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشده قوله
تـظـل جيـادنـا متمـطرات يلـطمهـن بالخُمُرِ النـسـاءُ
ودخل الرسولُ محمدٌ مكةَ وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز،وعندما دخل مكة فاتحًا أردف أسامة بن زيد -وهو ابن زيد بن حارثة مولى الرسولِ محمدٍ- ولم يردف أحداً من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة
ويقول الشيخ محمد الغزالي واصفاً دخول الرسولِ محمد مكةَ
فتح مكة وأصبحت أم القرى وقد قيّد الرعب حركاتها، واسترخت تجاه القدر المنساق إليها، فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، أو اجتمعوا في المسجد الحرام يرقبون مصيرهم وهم واجمون، على حين كان الجيش الزاحف يتقدّم ورسول الله على ناقته تتوّج هامتَه عمامةٌ دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشّع لله، لقد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجمّ، حتى كاد عثنونه يمسّ واسطة الرحل. إنّ الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثاً إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحفّ به ينتظر إشارة منه، فلا يبقى بمكة شيء آمن، إنّ هذا الفتح المبين ليذكّره بماضٍ طويل الفصول: كيف خرج مطارداً؟ وكيف يعود اليوم منصوراً مؤيداً؟ وأيّ كرامة عظمى حفّه الله بها في هذا الصباح الميمون؟ وكلّما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناءً، ويبدو أنّ هناك عواطف أخرى كانت تجيش في بعض الصدور. فتح مكة
المُسلمون يُحطمون الأوثان والأصنام.
ولما نزل الرسول محمدٌ بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وجَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ والأصنام تتساقط على وجوهها، ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت، وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام، فقال الرسولُ محمدٌ: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط
ثم دخل البيت وكبَّر في نواحيه ثم صلى فقد روى ابنُ عمر أن رسول الله دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه ثم مكث فيها، قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج ما صنع رسول الله؟ قال: جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى
وبعد أن صلى الرسول محمد هناك، دار في البيت، وكبّر في نواحيه، ووحّد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب، وهم تحته، فقال
فتح مكة لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوطا والعصا- ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم، فأراد عليّ أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن الرسولَ دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلاً: اليوم يوم بر ووفاء وكان الرسولُ قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاحَ قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه وقال: يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال بل عمرت وعزت يومئذ ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال، إلا أن الرسول محمداً قد أعطاه مفاتيح الكعبة قائلاً له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فلم يُعْطِ الرسولُ المفتاحَ أحداً من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجالٌ منهم، لما في ذلك من الإثارة، ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ.
وحانت الصلاة، فأمر الرسولُ بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب لقد أكرم الله أسيداً ألايكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته فقال أبو سفيان أما والله لا أقول شيئاً، لو تكلمات لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم الرسولُ محمد فقال لهم: قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسولُ الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك
وفي غداة الفتح بلغ النبيَّ أن خزاعةَ حلفاءَه عدت على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية فغضب وقام بين الناس خطيبًا فقال
فتح مكة يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم. يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فلقد كثر أن يقع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله.
ولما تم فتح مكة على الرسول محمد، قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه، فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال: معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم
وأقام الرسولُ محمد بمكة تسعة عشر يوماً، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره
النفر الذين أهدر الرسولُ محمد دمَهم
أهدر الرسولُ محمد يومئذ دماء تسعة نفر من المشركين، وأمر بقتلهم وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عبد العزى بن خطل التميمي، وعبد الله بن أبي سرح القرشي، وعكرمة بن أبي جهل القرشي، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة الكناني، وهبار بن الأسود القرشي، وقينتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بهجو الرسول محمد، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب بن هاشم، وهي التي وجد معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة.
ومن هؤلاء من قُتل، ومنهم من جاء مسلمًا تائبًا فعفا عنه الرسول محمد، وحسُن إسلامه.فأما ابن خطل فكان متعلقاً بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى الرسول محمد وأخبره فقال: اقتله فقتله، وأما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى الرسول محمد، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه، وأما عكرمة بن أبي جهل فأسلم وأمَّنه الرسول محمد، وأما الحارث فكان شديد الأذى للرسول بمكة، فقتله علي، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين، وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت الرسول محمد حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة، ثم أسلم وحسن إسلامه، وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للآخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت.
إعلان العفو العام
نال أهلُ مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ فقال لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها عند المسلمين، فهم يؤمنون أنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الرب تعالى.
كما أجار الرسولُ محمد رجلين من بني مخزوم، كانت أم هانئ بنت أبي طالب قد حمتهما، إذ قالت أم هانئ بنت أبي طالب: لما نزل رسول الله بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هُبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل عليٌّ بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إليَّ فقال: مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: قد أجرْنا من أجرتِ وأمنا من أمنت، فلا يقتلهم
وصل اللهم على الرحمه المهداه
صالح منصور